Abstract:
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المرسلين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين، أما بعد:
فإنه من فضل الله -سبحانه وتعالى- على عباده المؤمنين أن اختصهم بهذه الشريعة السمحة التي جاءت لتحقيق مصالح الناس، وتدفع عنهم المفاسد، فما من مصلحة إلا ودعت إليها، وما من مفسدة إلا ونهت عنها، فالشريعة الإسلامية جاءت للمحافظة على الضرورات الخمس وهي: حفظ النفس، والدين، والعقل، والنسل، والمال، وهذه الضرورات هي المصالح المعتبرة في الإسلام التي يعتبر الاعتداء عليها جريمة تستوجب العقاب، فالقتل وما دونه اعتداء على النفس، والزنا اعتداء على النسل، والسرقة اعتداء على المال، وشرب الخمر اعتداء على العقل، والردة اعتداء على الدين، والاعتداء على هذه المصالح وإن كان يقع على أفراد، إلا أن المجتمع يعتبر الضحية الكبرى لهذه الاعتداءات؛ لأن الاعتداء عليها يؤثر على المجتمع ككل، ولهذا فقد جعلت الشريعة هذه المصالح من الحدود التي يعتبر الاعتداء عليها اعتداء على حق الله.
ومع هذا فالشريعة الإسلامية لم تغفل عما يقع على الأفراد من ضرر جراء وقوع الاعتداء عليهم، فالفرد يعتبر الضحية الأكثر تضررا، باعتبار أن الجريمة تقع عليه مباشرة، ولهذا نجد أن الضحية أكثر حرصاً على إيقاع العقاب على الجاني، وذلك بقصد الانتقام والتشفي منه، ولكن الملاحظ أن رغبة الضحية في الانتقام والتشفي سرعان ما تنتهي وتتلاشى، وتصبح الضحية بحاجة إلى جبر الضرر الذي لحق بها من الجريمة، والشريعة الإسلامية الغراء اهتمت بهذا الجانب أيضاً، فأوجبت على الجاني في الجرائم العمدية الواقعة على النفس وما دونها دفع التعويض "الدية" المناسب للضحية، إضافة إلى إلزامه بجبر الضرر الواقع على مال الضحية في الجرائم الواقعة على الأموال، ولم تغفل الشريعة الإسلامية عن حالة الجاني وما قد يسببه التعويض الذي يدفعه للضحية من ضرر يحيق به، ولذلك أوجبت الدية في مال عاقلة الجاني في الجرائم غير العمدية، وذلك من باب المواساة والتخفيف عنه، ولم تغفل أيضاً عن حالة الجاني المعسر أو المجهول الهوية، فأوجبت على الدولة "بيت المال" دفع التعويض المناسب في حالة جهالة الجاني أو إعساره، تطبيقا لمبدأ أن الدولة ولي من لا ولي له ومبدأ لا يطل دم في الإسلام.
ومع هذا الحرص الشديد من قبل الشريعة الإسلامية في الحفاظ على حق الضحية في التعويض، لجبر ما لحقها من أذى بسبب الجريمة، نرى أن حق الضحية في التعويض في القوانين الوضعية مسلوب أو مذبذب، ففي القرون الماضية تعرضت الضحية إلى التهميش وعدم الاهتمام بحقوقها؛ لاقتصار فقهاء القانون الجنائي في ذلك الوقت على الاهتمام بالجاني وبكل ما يتعلق به، ومع منتصف القرن العشرين تقريبا توجهت الأنظار والأقلام إلى الضحية، وبدأت بدراسة كل ما يتعلق بها، فنودي باحترام حقوق ضحايا الإجرام وتعويضهم عما ألم بهم من أضرار جراء الجريمة، إلا أن هذه التوصيات لم تقنن في أغلب التشريعات وخاصة التشريعات العربية، فاقتصر معظمها على معاقبة الجاني أو منح الضحية فرصة الرجوع عليه بالتعويض.
وقد كان للتشريعات الجنائية العربية فرصة في أن تكون السباقة في مجال منح ضحايا الإجرام حقوقها وخاصة حقها في التعويض، وذلك بفضل ما تتضمنه الشريعة الإسلامية من أحكام ومبادئ تضمن لضحايا الإجرام التعويض المناسب عما لحق بهم من ضرر بسبب الجريمة، ولكن للأسف بعد التشريعات العربية عن أحكام الشريعة الإسلامية، واقتصار ما يطبق من أحكام الدين الإسلامي على العبادة فقط انتهى بهذه التشريعات إلى أن تكون مجرد نسخة عن التشريعات الغربية، وكأنه قدر لنا أن نأخذ عنهم أحكامنا ثم نقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا!!!
وليس لي هنا أن أقول في هذا المقام إلا ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد كنّا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.